برزت رسالتان أساسيتان في الأمسية التضامنية مع المعتقلين السياسيين أمير مخول و د. عمر سعيد، قبل اسبوع. الأولى هي رفض الاتهامات "الأمنية" الموجهة إليهما (وهي سياسيّة الدافع طبعًا)، بمعنى عدم تصديق ما تنسبه السلطة وتزعمه من فبركات. والرسالة الثانية، المكمّلة، هي التأكيد على أن الاستراتيجية النضالية للجماهير العربية الباقية في وطنها كانت، تاريخيًا، ولا تزال، العمل السياسي والشعبي وليس أية "أجندات أمنية" مزعومة.
الجمهور المشارك في الأمسية تنوّع، كجمهور المتظاهرات والمتظاهرين الذين خرجوا للاحتجاج فور معرفتهم أنباء الاعتقال التعسفي، في حيفا وكفر كنا وما بينهما وحولهما من بلداتنا التي لا يمكن أن تطيق الذلّ أو تقبل التحريض عليها، المباشر منه وغير المباشر على حد السواء. فمجرّد فعل الاعتقال، التعذيب، إنشاء ملفات ملفّعة بـ "الأمن" هو فعل تحريض علينا جميعًا. لأن القضية هنا ليست "شخص" المعتقل، بل هويته. هويتنا. وهو ما يشكل وقودًا لعملية الإقصاء السلطوية المنهجية لجماهيرنا من دائرة المواطنة بما تعنيه من حقوق ومساواة في الحقوق. فالمسألة تنطوي بالطبع على الكراهية التي تشكل عنصرًا أساسيًا في العنصرية التي تنخر في دعائم هذه المؤسسة الاسرائيلية – لكن هذا لا يكفي لتحليل الأمر. من واجبنا البحث عن المستفيد من هذا الجو السام. هناك مصالح سياسية أولها التسبب بالانكفاء لجماهيرنا العربية، إضعاف صوتها المطلبيّ، الاحتجاجيّ، السياسيّ والمدنيّ وخنق صوتها الوطنيّ، بغية فصله عن صوت شعبها المنادي بالعدالة، سواء في سياق التسوية السياسية أو "التسوية المدنية" في اسرائيل.
هنا سأتساءل بشيء من الحذر: هل نجحت المؤسسة، عينيًا، في هدفها السياسيّ ارتباطًا باعتقال مخول وسعيد؟ يُقال هذا لأن هناك تراجعًا ملحوظًا، بل مرئيًا، في التحرك السياسي الاحتجاجي في هذا الشأن. لربما أن الغطاء الأمني الذي لفّت المؤسسة هذا الاعتقال السياسي به، جعل البعض يقوم بخطوة للخلف. "الضعف الانساني" كما اعتاد الراحل إميل حبيبي القول، مشروع، ولكن ليس هنا. لأن مردّ هذا "الضعف" الذي أدّعيه هو الاستعجال في الاستنتاج! بينما ما يجب تأكيده بقوّة هو أننا نرفض الاتهامات تمامًا، لا نقبلها ولا "نتضامن معها" أبدًا، وهو ما يجب أن يظلّ في مركز الصورة.
هناك صراع على "صورتين"، الأولى تفبركها المؤسسة لإرباك جماهيرنا وزجّها في خانة دفاعية غير مبررة، وأخرى، نقيضة، نرسمها نحن اشتقاقًا من تجربتنا التاريخية ورؤيتنا الاستراتيجية وإرادتنا الحرة لوجودنا ونضالنا الذي سبق التأكيد أنه أشبه بسباق المسافات الطويلة، وليس الهرولة هنا وهناك.
فنحن نعرف من هما المعتقلان، وما هي أجندتهما ورؤيتهما وممارستهما السياسية والشعبية. وهما يمارسان حقهما بالنشاط السياسي منذ عقود بما لم يتجاوز "الخطوط الحمراء". ونحن نعرف الخطوط الحمراء ولا نتجاوزها ليس بدافع الخوف، لا، وإنما انطلاقًا من أننا أهل هذا الوطن ومن يقيننا بأن "أهل الوطن ادرى بشعابه"!
منذ ستة عقود ونيّف صاغت جماهيرنا مأثرة بقاء يحق لنا الاعتزاز بها. لم تقم بذلك ذهابًا في طرق الذلّ أو التبعيّة أو العدمية القومية مثلما أرادت وخططت المؤسسة الاسرائيلية. بل إن هذه الجماهير كسرت حواجز الخوف الواحد تلو الآخر من خلال الممارسة السياسية النضالية الجريئة والمسؤولة في آن معًا. هذه التوليفة للجرأة والمسؤولية هي نتاجٌ لإتقان قراءة الواقع واستيعاب المتغيّرات فيه، واتخاذ القرار (والفعل) بالمواجهة كلما اقتضى الأمر عينيًا، وطيلة اضطرارنا العيش تحت وطأة النظام الاسرائيلي، عمومًا!
من واجبنا جميعًا رفع شعار: قضية أمير وعمر هي قضيتنا جميعًا. ليس لهدف التضامن الحقيقي معهما فقط، وإنما، أيضًا، إخلاصًا لمسيرتنا جميعًا في وطننا الذي لا تزال المؤسسة الاسرائيلية تريدنا فيه أغرابًا مغتربين مذعورين. لكننا أبناء وبنات هذا الوطن الشرعيين، ولا يقبل منطقنا، عقلنا، وجداننا وإرادتنا تحويلنا الى الهامش أو الشاذ عن قاعدة وطننا. لأننا مركز الصورة ونقطة فرجار الدائرة. وأيّ توانٍ منا سيشكل عرقلة ذاتية لمسيرتنا، وكأنه لا تكفينا عرقلات وعراقيل من إنتاج مؤسسة إسرائيل!
لربما يجب تنظيم دورنا النضاليّ في هذا الشأن من خلال المبادرة لإقامة لجنة التضامن مع المعتقلين السياسيين أمير مخول وعمر سعيد، كي تركز الخطوات وتضع القضية في سياقها الصحيح، وتمنع دمغها بأية أكاذيب سلطوية. هذا هو الواجب، لأجلهما ولأجل جماهيرنا - لأجلنا جميعًا.