نضال ثنائي القومية لتأسيس مجتمع ثنائي القومية

رغم تكريسي جزءاً كبيراً من حياتي للنضال ضد الاستعمار الصهيوني، سوية مع رفاق النضال من اليهود، ففعليا ما يزال عيشنا في هذه البلاد يشكّل جزءاً من مشروع استعماري ذي وجود فعليّ، يواصل تجنيد اليهود لغرض سلب الفلسطينيين، وذلك بصرف النظر عن طموحات بعض مشاركي هذا المشروع وإدراكهم وحراكهم السياسي. إن التحدي الذي يواجهنا نحن الذين توصلنا إلى الوعي المناهض للكولونيالية، لا يقتصر فقط على الانفصال عن المشروع الاستعماري بل يتمثّل أيضا بإنشاء مشروع بديل لانخراط متجدد لليهود في الشرق الأوسط كأفراد متساوين. ولا يقوم هذا الانخراط إلا إذا تأسس على تحقيق حقوق الشعب الفلسطيني، وكبح الاستعمار الصهيوني بكل أشكاله، ناهيك عن تقويم أخطاء الماضي. إنني أؤمن بنضال مشترك (نضال يهودي-عربي، إسرائيلي-فلسطيني) ضد الحركة الصهيونية؛ الحركة الاستعمارية التي ما تزال تحكم المكان الذي نحيا به، وضد الحكم القائم على السلب والفصل والعنصرية: نضال ثنائي القومية لإقامة مجتمع ثنائي القومية ديموقراطي ومتساوٍ. لذلك فإن النضال العربي اليهودي المشترك ضروريّ من وجهة نظري. 

لقد ترعرعت بين أناس كرسوا جزءاً وفيراً من حياتهم من أجل النضال المشترك، وبذلوا مقابل ذلك ما بذلوه، ولقد حاولت المساهمة به شخصياً ولو بدرجات متفاوتة من الفلاح. إلا أنني لا أؤمن بأن النضال المشترك دواء سحري؛ إذ إنه محفوف بصعوبات كبيرة، ومن المفضل استيضاحها صراحة. ثمّة ظروف إذا ما تم التلويح في سياقها بشعار النضال الإسرائيلي-الفلسطيني المشترك دون الاكتراث لتعقيداته وصعوباته، فإن من شأنها إعادة انتاج فوقيّة الإسرائيليين مقابل الفلسطينيين داخل النضال ذاته. ليس هناك وصفة واحدة للنضال ولا حتى للنضال المشترك، عليه فهناك حاجة لاستيضاح أسئلة أساسية متعلقة بنضالات التحرّر.

تنظّم مستقل للمضطهدين للنضال

إن كل نضال ضد الغبن هو في المقام الأول نضال المجموعة المغبونة المستغلة ومسلوبة الحقوق. إذن، وقبل أن نتحدث في شأن النضال المشترك، يتوجب علينا التفكير في الصعوبة البالغة التي يواجهها الناس في التنظّم سوية لأجل أنفسهم. سواء أكان هؤلاء سكان قرية في المناطق المحتلة أم الذين يناضلون ضد الجدار الذي يسورهم والمستوطنين الذين يسلبون أراضيهم، أم سكان قرية غير معترف بها في النقب والذين يواجهون يومياً وعلى مدار الساعة ضائقة من طرف السلطات لحملهم على الرحيل عن أراضيهم ناهيك عن الهدم المتكرر لبيوتهم، أم السكان الشرقيين الذي يشكلون الأغلبية في حارة يهودية مهددة بالإخلاء لكي يُتاح المكان لميسوري الحال، ولكي يتمكن المستثمرون من تأمين استثماراتهم العقارية، أم عاملات في شركة يحاولن التنظّم في نقابة، أم النساء اللواتي يحاولن وضع حد للعنف المستشري ضدهن، أم سكان بلد في المثلث والذي يقام على مقربة منه مكّب نفايات، أم سكان عرب في منطقة داخل إسرائيل أراضيهم مهددة بالنهب. إن النضال هو نضال هؤلاء، ومهمتهم الأهم هي تمكين توحيد صفّهم النضالي وتجنيد كافة أعضاء وعضوات المجموعة التي يمسها الأمر. هذه المهمّة منوطة بمسألة التحالفات مع المجموعات الأخرى. احترام حاجتهم للتنظّم ولتجنيد عام لكل المتضررين من الغبن ليس بالأمر التكتيكي فحسب إنما يقوم على الفرضية الأساسية بأن كل تحرر هو في المقام الأول تحرر الذات؛ نضال البشر المستعبدين من أجل تحرير ذاتهم. إن مشاركتهم السيادية في سيرورة النضال بحد ذاتها مكوّن ضروري في سيرورة تحررهم هم أنفسهم. لن يقوم أحد بفعل ذلك من أجلهم، أو بدلا عنهم. إذا ما أتى التحرير من الخارج، فلن يكون ذلك تحرراً وإنما استعباد من نوع جديد. 

قبل البحث عن حلفاء وقبل محاولة إثارة الإعجاب والتضامن في صفوف أناس بعيدين فإن المهمة الأولى في كل نضال هو تجنيد أعضاء وعضوات المجموعة ذات الشأن والذين يعانون من نفس التمييز ضدهم، كما أنهم مسلوبو الحقوق ذاتها بل ويطالبون بذات الحقوق لأنفسهم وتحويلهم فعلياً لتعاونية اجتماعية.

إن النضال الفلسطيني نضال قومي من أجل التحرر مستمر منذ عقود طويلة. مهمّة توحيد هذا النضال هي مهمة تاريخية صعبة والتي لطالما اعترضتها مخاطر شديدة لا سيّما في هذه المرحلة. إن نضال الفلسطينيين في إسرائيل ضد السلب والتمييز ولأجل المساواة وحق تقرير المصير، هو وفقاً لهذا نضال فلسطيني في المقام الأول: كل مجموعة مضطهدة يتوجب عليها التنظّم والتكاتف في وجه الاضطهاد الجمعي. سهل على من لا يتبع للجماعة المضطهدة الاستهتار بالصعوبات الكبيرة التي ترافق بناء وحدة كهذه، إلا أن أنماط الاضطهاد والاستغلال مضفورة في الواقع الاجتماعي، بل وتعمل على شرذمة المجموعات المضطهدة كذلك، حيث أن كل نضال من أجل المساواة عليه مواجهة فروقات اللون والجنس والطبقة والثقافة لدى الشعب المضطهد. ومن أجل إقامة وحدتها في ظل ظروف من الاضطهاد، تحتاج كل مجموعة مضطهدة أن تبني لنفسها مكاناً مشتركاً، حيث يشكّل هذا أيضاً شرطاً مسّبقاً للنضال المشترك؛ نضال أعضاء وعضوات المجموعة المضطهدة المشترك. إن تنظُّم المضطهدين المستقل لنضال جماعي أمر إجباري. هذه هي نقطة الانطلاق الضرورية للنقاش بشأن النضال المشترك.

أوهام الشراكة في ظل ظروف من انعدام المساواة

عليّ أن أشير هنا إلى شيء أوجهه لبعض من أصدقائي وصديقاتي اليهود في اليسار، والذين أحياناً (من  فرط حماسهم لموضوع النضال المشترك) يجدون صعوبة في تقبّل حاجة الفلسطينيين والفلسطينيات للتنظّم بمعزل عنهم وذلك من أجل حماية حقوقهم ولبناء وحدة صفّ واسعة للنضال، وحدّة فلسطينية داخلية. وأنا لا أقصد هنا هؤلاء الذين ينظرون بعين الريبة والخوف إلى كل تنظُّم مستقل لجماعة مضطهدة ما، والذين لا يدركون مثلاً لماذا يصّر العرب على التواصل فيما بينهم بالعربية ولا يقومون بتفسير كل شيء بالعبرية (وهي "اللغة السائدة في إسرائيل"). أتكلم تحديداً عن هؤلاء الإسرائيليين والإسرائيليات الذين استفاقوا من الأسطورة الرسمية والمستعدين للنضال ضد النظام القائم. إنني أدرك توْق هؤلاء الذين تجاوزوا جدران النظام القائم للانضمام للفلسطينيين في النضال المشترك.

إن من يجد غرابة في أن المضطهدين يطالبون بإدارة نضالاتهم وحدهم أيضاً، والانعزال فيما بينهم وذلك من أجل وحدة صفهم النضالي، فإنه ولا شك يتبلبل بين واقع متساو مستقبلي وبين الواقع الفعلي. من أجل التوجّه لنضال مشترك برأس مرفوع فإن التنظّم المنفصل للمضطهدين والمضطهدات أمر ضروري في بعض الأحيان. ولمن يسأل لماذا لا تقبل مجموعات فلسطينية مناضلة ضد الاضطهاد يهوداً بينها، فإنه ينسى أن اليهود الحقيقيين في هذه البلاد يتمتعون بامتيازات ووضع أفضل حتى وإن كانوا يتصدون لها، وحالهم بذلك كحال أي رجل لا يستوعب حاجة مجموعات من النساء الاجتماع من أجل بناء حيز آمن يستطعن فيه التحدث عن الاضطهاد، وتحويله من أمر شخصيّ إلى جماعيّ.

إن المطالبة بحراك مشترك في كل مكان والتحدث سوية (إسرائيليين وفلسطينيين) في كل زمان وفي كل سياق، تتجاهل أولاً الحاجة الطبيعية لكل مجموعة للاجتماع فيما بينها وتأسيس وحدة صفها من أجل النضال ضد الاضطهاد (وفي هذه الحالة أيضاً، لا يوجد تطابق بين المضَطهِدين والمضَطهَدين). ثانياً، وعلى درجة أكبر من الأهمية، فإن فهماً تبسيطياً كهذا للنضال المشترك يتجاهل انعدام المساواة بين الذين يناضلون لنيلها. إن الحراك المشترك بين أفراد غير متساوين والذي يقوم على تجاهل الفروقات بينهم وعلى إنكارها في الواقع، من شأنه وعلى الرغم كل النوايا الحسنة إعادة إنتاج عدم المساواة القائمة.

على التنظمات السياسية المشتركة أن تتأسس على الإدراك بأن عدم المساواة (وهذا أمر لا يمكن تفاديه تقريباً) يتغلغل داخلهم ويعمل على تشكيلهم. ومن الأفضل الاعتراف بذلك ومقاومته بدلا عن انكاره. ليس هناك من وصفة سحرية من شأنها إنتاج اتحادات مشتركة ذات تأثير اجتماعي فعلي، بحيث تمثل المضطهدين والمستغلين والذين يتساوون مساواة كاملة فيما بينهم. لا مفرّ أمام هذه الاتحادات المناضلة من أجل المساواة إلا التعامل طيلة الوقت مع عدم المساواة الموجودة داخلها وبناء آليات لتعويض ذلك، كما أن عليهم أن يكونوا على استعداد للنقاشات وللصراعات الداخلية. عدم المساواة شيء يتضح جلياً للعيان فقط حين يتصارع البشر عليه أو يتناقشون حوله.

إن الحماس للحراك المشترك يمكنه أن يكون مضللاً أحيانا: فمن جانب النشطاء الإسرائيليين من شأنه التعبير عن طموحهم الصادق لنبذ نظام حياة عماده العزل والامتيازات، ولكنه في الوقت نفسه قد  يشكّل عدم إدراك ما يختلف به حقاً الإسرائيليون عن الفلسطينيين بعد مئة عام من النزاع الاستعماري وتجاهل تجربة حياة الفلسطينيين المغايرة. حتى من جانب المضطهَدين فإن الحماس لحراك مشترك هو بمثابة بادرة كريمة أحياناً لشمل أعضاء المجموعة الحاكمة المستعدين لرفض قواعدها، إلا أن ذلك من شأنه أحياناً أن يفتن أعضاء المجموعة المضطهدة، والذي يرون في أن التشارك مع أعضاء المجموعة الحاكمة يمثّل عزلتهم الاجتماعية وأملهم في خلاص يأتي من الخارج.

حول الفرق بين النضال المشترك والنشاط المشترك

إن كان كل هذا غاية في الصعوبة، لماذا إذن محاولة الوقوف أمام التحدي الصعب الذي يشكّله النضال المشترك؟ للرد على هذا السؤال، أعتقد أنه من الأجدى أن نفكر للحظة ليس فقط بظروف الشراكة وإنما أيضاً بالسؤال حول المعنى الذي يحمله نضال لتغيير اجتماعي وسياسي. الافتراض البسيط بأن النضال المشترك يعني أيضاً حراكاً وعملاً مشتركاً في كل مكان، هو افتراض يتجاهل تعقيدات النضال نفسه. إن النضال المشترك ليس حراكاً مشتركاً أو إضراباً أو مظاهرة فحسب، بل إنه سيرورة معقدة تتعامل مع جهاز اجتماعي قمعيّ ومميِّز على مواقع مختلفة.

النضال المشترك لا يحتم عملا أو نشاطا مشتركا بالضرورة؛ إذ إن النضال المشترك يعني في الأساس الاتفاق على هدف مشترك، والنشاط بحدّ ذاته قد لا يكون مشتركا بالضرورة، في حين أنه قد يكون هناك نشاط مشترك لكن الهدف النضالي ليس مشتركا.

هناك مواقع صراع لا متناهية في الحياة الاجتماعية؛ في كل مكان يوجد فيه أناس يناضلون ضد ضائقة ما، أو ضد المسّ بحقوقهم وفي كل مكان يحاولون فيه الدفع بمصالحهم الاجتماعية في وجه الاستغلال والسلب والاستبعاد. أناس يناضلون ضد السلب والاستيطان في النقب وضد تقليص برامج الإسكان الجماهيرية والتنكيل بالعائلات وكذلك ضد المسّ بحرية التنظّم ومن أجل رفع الأجور ومن أجل تأمين فرص لتعليم لائق. كل نضال كهذا هو نضال المتضررين أنفسهم، نضال الناس الذين يمسّهم الأمر سواء مباشرة أو يمس أعزاءهم. 

إلا أن الحياة الاجتماعية أعقد من ذلك بكثير. هناك رابط بين السيرورات ومواقع النضال المختلفة: بين تقليص الميزانيات الاجتماعية في إسرائيل والخصخصة وبين دفع الناس إلى المستوطنات في المناطق المحتلة،[1] بين المسّ بحق تنظّم العمال وبين جعل المواطنين رعايا مطيعين، وبين التمييز في التعليم وبين الفجوات في الدخل. حتى أن العلاقات التالية على درجة أكبر من التعقيد: من يناضل ضد المستوطنات في المناطق المحتلة، عليه أن يتعامل مع حقيقة توجيه المستوطنين إلى تعزيز السلب داخل الخط الأخضر، من يحاول الدفع صوب اعتراف متساو بنسيج اجتماعي شرقي، عليه التعامل مع إمكانية أن يكون هناك احتواء مؤسساتي، من شأنه فصل هذا النسيج عن جذوره الشعبية، الأمر الذي يدفع الفاعلين والفاعلات به لفصل أنفسهم عن التعامل مع اضطهاد ثقافي جماعيّ. إن المجتمع منظومة متكاملة وليس حزمة من المواقع فإحراز انتصار في مجال اجتماعي ما من شأنه أن يترجم كضربة قاسية في مجال آخر. إن السيرورات متشابكة بعضها ببعض، عليه فإن النضال من أجل التغيير الاجتماعي لا يقتصر على ضرر بعينه دون آخر أو ضد سياسة محددة بل يعتمد على نضالات عينية كهذه وإن كان لا يمكن حصره بها. إن الادراك السياسي، يعني في جملة ما يعنيه، فهمُ أننا لا نواجه أضراراً بعينها فحسب وإنما نواجه منظومة اجتماعية كاملة؛ نواجه النظام القائم.

لا يتعيّن على كل نضال أن يكون نضالا مشتركاً بالضرورة، بل هو نضال المجموعة الواقعة تحت القهر؛ هي هذه المجموعة التي يشكّل الطموح لتغيير الوضع في السياق المحدد، تعبيراً عن مصلحتها هي. في حين يستوجب التعامل مع الجهاز ككل نضالاً مشتركاً.

لا يشكّل نضال الفلسطينيين في المناطق المحتلة ضد الاحتلال – على سبيل المثال – بحد ذاته نضالاً مشتركاً؛ صحيح أنه يمكن لمواطني الدولة المحتلة وحتى مواطنيها الفلسطينيين المضطهدين التماهي معه ودعمه ومساعدته، إلا أن هذا النضال في المقام الأول هو نضال النساء والرجال القابعين تحت وطأة الحكم العسكري. من جهة أخرى فإن النضال ضد نظام السلب السائد في البلاد؛ أي ضد الكولونيالية، هو نضال مشترك لأن الكولونيالية تصوغ حياتنا جميعاً وتحكم علينا نحن أبناء وبنات الشعبين، بالحرب والعذاب؛ هو نضال مشترك، حتى عندما يتم في زوايا وصور مختلفة، بين شرائح مجتمعية تختلف بعضها عن بعض إلى أبعد حد. إن الحاجة للنضال المشترك والمعقّد تنجم حينما نعترف على الصعيد السياسي بأن تعاملاتنا ليست بصدد ضرر كهذا أو آخر، وإنما مع النظام القائم.                                                  

في وجه عدو مشترك، من أجل مستقبل مشترك

بناءً على وجهة النظر هذه، هناك سببان أساسيان للنضال المشترك، هما لكونه: أولاً، نضال ضد عدو مشترك، وثانياً،  نضال من أجل مستقبل مشترك. يحتاج كلا الادعائين توضيحاً يستوفيهما.

(أ) إن جوهر النضال كما أراه ويراه شركاء وشريكات الدرب هو النضال ضد الاستعمار الاستيطاني (settler colonialism)، سواء بكونه حركة منظّمة، أو كسيرورة مستمرة على مدار الوقت، أو كمنظومة سياسية-اجتماعية  تعمل بطرق مختلفة على شقيّ الخط الأخضر. خلافاً للحكم الإمبريالي، لا يوجد مكان حقيقي للشعب الأصلاني في الاستعمار الاستيطاني. حيث أن الطرد والسلب لا يشكلان بحسبه طريقة قمع مؤقتة (علماً بأن الإمبراطوريات كانت قد استعملته أحياناً) إنما أهدافاً إستراتيجية. صحيح أن الاستعمار الصهيوني يمنح اليهود امتيازات ومكاسب، إلا أنه في الوقت ذاته لا يعتبرهم أكثر من مادة خام بشرية: بالإمكان استيرادها متى يشاء (للدفع بعملية الاستيطان في الخمسينيات) لكنه بالإمكان أيضاً رميه أو طرق الباب بوجهه عندما لا تعود حاجة إليه في سبيل تطوير مصنع المستوطنات ("علياه/هجرة يهودية منتقاة" لـ"المناسبين فقط"). بالإمكان استعمال ضائقتهم لتبرير الحروب، بالإمكان تأزيم ضائقاتهم لدفعهم إلى الانخراط في عملية السلب، وبالإمكان أيضاً التضحية بهم من أجل ضائقاتهم حينما تنتهي الحاجة إليهم. لقد تسبّبت الصهيونية بهوّة عميقة وكبيرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، حيث أن هناك فرقا شاسعا بين استعمال اليهود كمواد خام في مشروع الاستعمار وبين المحاولة الممنهجة لطرد الفلسطينيين وسلبهم. إلا أن الصهيونية هي العدو المشترك للشعبين عليه فالبقاء مشرذمين أمامها ما هو إلا من الكماليات.

إن النظام الاستعماري يشرذم أيضاً المجتمع الفلسطيني على الدوام بناء على درجات مختلفة من الاضطهاد وأحياناً عبر توزيع المكاسب. تحكّم هذا النظام بالمجتمع الإسرائيلي يعتمد على تصنيفات من التمييز وعلى توزيع امتيازات ومكاسب تهدف لإدامة تعلّق الناس بالنظام، ولا يمكن اعتبار هذا النهج سمة ثانوية للاستعمار، وإنما إستراتيجية أساسية يقوم باتباعها. يجب توحيد الصفوف أمام عدو مشترك ووضع إستراتيجية نضال مشترك مضادة بصرّف النظر عن تعقيدها وصعوبتها.

(ب) يتأسس حكم الاستعمار الاستيطاني الذي نقبع تحته على التطهير والفصل الممنهج. مقابل نظام الأبرتهايد غير الرسمي أو  نصف-الرسمي، تكون الحياة المشتركة المتساوية هي البديل الممكن طرحه.

هذا كان الخيار الإستراتيجي الذي اختاره الكونغرس القومي الإفريقي، فجنوب إفريقيا الآنية بعيدة كل البعد عن إتمام مواجهتها إرث الأبرتهايد. عليه فأنا شخصياً لا أميل لهؤلاء الذين يطالبون بنسخ نموذج مكتمل أياً كان إلى هذه البلاد، بما في ذلك القرارات السياسية التي اتخذها الكونغرس القومي الإفريقي ما بعد 1994. إلا أن القرار الإستراتيجي الذي اتخذه الكونغرس آنذاك، وذلك بطرح الحياة المشتركة المتساوية كبديل لنظام الاستيطان والسلب الجنوب إفريقيّ (والذي لا يمثّل الأبرتهايد القضائي سوى أحد تجلياته المؤقتة والأكثر تطرّفاً) يبدو لي سليماً حتى في يومنا هذا. إن النضال المشترك يمثّل المستقبل المشترك في الحاضر في مواجهة نظام الفصل والجدران.

ويجدر التذكير بأن الاختلاط الحقيقي وغير المقيَّد بين الناس لا يعني إلغاء الحدود، بل على العكس فهو يعتمد على الإدراك المتبادل بين الأفراد والجماعات وعلى احترام الحدود والفروقات. فقط بهذا يستطيع الناس تجاوز الحدود بشكل حرّ حقيقي وبمحض إرادتهم. لا تلغي حياة مشتركة قوامها الحرية والمساواة حق الناس بالحياة وفق رغباتهم وخلافاً للآخرين، وإنما تفتح أمامهم إمكانيات تعبّر عن الحرية لا عن إكراه جديد.

إسرائيليون وفلسطينيون في نضال مشترك

يتوجب على أي نضال مشترك أن يتأسس على اعتراف عميق بالفروقات؛ ليس المقصود اعترافا مبدئيا وعاما فحسب، وإنما اعتراف عينيّ بالظروف السياسية والاجتماعية التي يدور النضال في فلكها. فمثلاً؛ التعاون الإسرائيلي-الفلسطيني الممكن داخل الخط الأخضر يختلف تماماً بإمكانياته عن ذلك القائم في ظل حكم الاحتلال. إن محاولات التنظّم المشترك عبر شقيّ الخط الأخضر أمر مغرٍ وجذاب للنشيطات والنشطاء الفاعلين بحزم ضد الاحتلال، فهم يجابَهون ليس فقط بفروقات حاسمة على مستوى القمع، والتي تحدّ إمكانيات حراكهم السياسي وإنما يجابَهون أيضاً بالتاريخ المغاير وبالتجارب التي خاضها فلسطينيون وإسرائيليون عبر شقيّ الخط الأخضر على مدار الستين سنة الأخيرة. ولا يعني هذا استحالة قيام نضال مشترك إسرائيلي-فلسطيني عبر شقيّ الخط الأخضر بل على العكس؛ فعدد من التحديات المهمة ضد سلطة الاحتلال كانت قد أفرزتها تجارب النشطاء عبر شقيّ الخط الأخضر في دأبهم على بناء شراكة في النضال: بدءاً بشراكات فعلية في الحراك، من تظاهرات مشتركة (في الثمانينيات وخلال الانتفاضة الأولى) واختراق الحصار وتدعيم الصمود الفلسطيني (في الانتفاضة الثانية)، مروراً بالنضال ضد الجدار وكبح محاولات التهجير/ الترانسفير (يانون، جنوب جبل الخليل)[2] انتهاءً بالشراكات السياسية في محاولة لصياغة رؤيا سياسية وتدعيم النضال ضد الاحتلال وذلك بمساعدة التنسيق والاستشارة أو عبر رسائل سياسية داعمّة للنضال في سياقاته المختلفة.[3] إلا أن معنى النضال المشترك في ظروف كهذه يختلف تماماً عن النضال المشترك عبر شقيّ الخط الأخضر. باختصار، يمكن القوْل إن أشكال النضال وأنماط التعاون تتعلق بفروقات من الأفضل مراعاتها لا التغاضي عنها أو حتى إعادة إنتاجها لا شعورياً.

ما الذي بإمكان الإسرائيليين تقديمه لنضال فلسطيني-إسرائيلي مشترك؟ أولاً، التوجّه إليه بتواضع وبأذن صاغية أسوة بأي إنسان آخر. ثانياً، عوضاً عن إنكارهم للامتيازات التي يغدقها عليهم النظام القائم باستطاعتهم بل ويتوجب عليهم أن يستغلّوا هذه الامتيازات في النضال نفسه؛ استعمالها من أجل إلغائها.

من السهل قول هذا ولكن من الصعب العمل به. إن التعرف الحقيقي على هذه الامتيازات والشعور بها لا يحصل إلا عندما تصبح مهددة بالخطر عبر السيرورة العينية للنضال. بهذا المفهوم يشكّل النضال المشترك أيضاً مكاناً تحدث فيه سيرورة تربوية ذاتية، سيرورة صحو. ليس من السهل استعمال هذه الامتيازات لتقويض نظام عماده هذه الامتيازات. هناك فرق بين استعمال الامتيازات حتى ولو لغاية جيدة وهو استعمال يصعب التنازل عنه أحياناً، وبين توظيف الامتيازات لصالح المضطهدين إذ تشكّل الامتيازات مصدراً للأوهام. فمن السهل مثلاً على الإسرائيليين الوقوع في فخ الحصانة النسبية التي يتمتعون بها، ذلك أنهم يفترضون أنه بفضل وضعيتهم الفُضلى بمقدورهم التخليص أو الاصلاح أو التعامل على وجه أفضل والإدراك على وجه أفضل؛ في الواقع إن الامتيازات لا تمنح أية معرفة أفضل للواقع.

إن المساهمة المميزة الثانية التي بإمكان الناشطين والناشطات اليهود الإسرائيليين تقديمها للنضال المشترك تتعلق بالتناقضات والتوترات الموجودة في المجتمع اليهودي-الإسرائيلي. فهو وإن يكن مجتمع مستوطنين أفرزته سيرورة استعمارية ويضمن للمستوطنين اليهود فيه امتيازات, إلا أنه أيضاً مجتمع رأسمالي وذو تركيب طبقي تعتريه التناقضات والتوترات الداخلية. ليس المجتمع الإسرائيلي كتلة متجانسة واحدة؛ بل إنه مجتمع رأسمالي وذو تركيب طبقي يُنتج الفقر وثراء الأقلية في المجتمع اليهودي كذلك. فمن الخطأ إذن اعتبار هذا المجتمع على أنه نتاج الأيديولوجية الصهيونية السائدة فحسب: فهو نتاج سيرورات اجتماعية واقتصادية أنتجت بدورها مجتمعاً رأسمالياً يعاني من تمييز حادّ ومن تناقضات اجتماعية داخلية. فكّروا بالتناقض القائم بين الحاجة لتوظيف جمهور اليهود لمشروع بسْط سيطرة واحتلال وتوحيدهم تحت سقف "وحدة قومية" عمادها شعارات الدولة والصهيونية، وبين هدم الخدمات الاجتماعية وترك مئات الآلاف تحت رحمة "السوق الحرّة" في عهد الرأسمالية النيوليبراليية.  

إن هذه التناقضات من شأنها خدمة المشروع الاستعماري (مثلاً عبر توظيف الضائقة الاجتماعية من أجل دفع فقراء المجتمع اليهودي ليصيروا مستوطنين). إلا أنه بإمكان هذه التناقضات أيضاً تفتيت الوحدة القومية السائدة والمساعدة على كبح الاستعمار. وظيفة الناشطين والناشطات الإسرائيليين في النضال المشترك الدفع بنضالات اجتماعية كهذه، سواء أكانت طبقية أم عرقية أم ثقافية – من أجل فسح الإمكانية أمام مجموعات في المجتمع الإسرائيلي للانفصال عن النظام القائم وإضعاف قوته والتحرر من سيطرته. ومن أجل التحقيق الفعلي للطاقة المناهضة للاستعمار والكامنة في تناقضات المنظومة الاجتماعية يغدو التنسيق والحراك المشترك ضروريين بين نشطاء هذه النضالات وبين النضال الفلسطيني.

كما أن لليهود الإسرائيليين دور مميز في النضال المشترك ضد الاستعمار، هناك أيضاً مساهمة حاسمة للعرب الفلسطينيين, الذين هم وحدهم/ن القادرين/القادرات على الإسهام في النضال. المركّب الأول والأساسي للنضال المناهض للاستعمار في هذه البلاد هو المواجهة – نضال فلسطيني عمليّ ضد السلب. يقف المضطهدون في هذا النضال في المقام الأول في مواجهة مؤسسات الحركة الصهيونية ("المؤسسات الاستيطانية") الفاعلة تحت رعاية قمع عسكري في المناطق المحتلة وأجهزة مدنية في مناطق الخط الأخضر. لا مفّر من خوض هذا النضال وفق الحدود القومية، وذلك لأن عمليات السلب تضر بغالبيتها الساحقة بالفلسطينيين، وأيضاً لأن غالبية اليهود الإسرائيليين يقعون (شاؤوا ذلك أم أبوا) أسرى المعسكر الصهيوني. 

لكن النضال المناهض للاستعمار, ككل نضال اجتماعي وسياسي عميق, لا يقتصر فقط على مقاومة الأفعال بما في ذلك المصادرات والمستوطنات والطرد والتمييز، وإنما هو نضال من أجل تغيير الوعي في كلا المجتمعين. في المجتمع الفلسطيني يشكّل نضالاً عظيماً ومستمراً من أجل بناء الوعي بالتحرر في ظل ظروف من الاضطهاد؛ التحرّر من تذويت الاضطهاد ومن التعامل مع الاستعمار سواء خفية أو علانية، مدركاً أو غير مدرك لآليات السلب. إن السيرورات الاستعمارية ليست مجرد "احتلال": بل تعمل على تغيير المشهد الطبيعي والمجتمع وتبقي بصماتها على المحكومين والحاكمين على حد سواء. لن يكون النضال ضد الاستعمار يوماً نضالاً "من الخارج"، فهو لطالما شكّل نضالاً ضد تواجده العميق في المجتمع الحاكم.

أما بالنسبة للمجتمع الإسرائيلي فالحديث هو عن تحرّر من الأسر الصهيوني وبمفهوم أعمق هذا يعني تحرر مجتمع مستوطِن من الوعي الكولونيالي، حتى وإن لم يكن هذا الوعي مصوغاً كجزء من الخطاب الصهيوني. يشكّل هذا بحد ذاته نضالاً صعباً حيث أنه لا يشكّل نضالاً في وجه الأفكار فحسب؛ فإن الوعي الاستعماري يُشحن في المجتمع اليهودي عبر مؤسسات وممارسات اجتماعية: الحرب الدائمة تقوي وتحاصر، "الجيتو" المسلّح يبني نظام الجدران في الوعي الاجتماعي عند الإسرائيليين بدرجة لا تقل تأثيراً عما يتلقونه في المدرسة.

إن تحرر المجتمع اليهودي من الوعي الاستعماري يتحتم عليه أيضاً أن يكون في صميمه سيرورة تحرر ذاتي, والذي فيه أيضاً يؤدي الفلسطينيون وظيفة مهمة.

أولاً، إن نضال الفلسطينيين ضد سيرورات النهب يشكّل بحد ذاته تنبيهاً للمجتمع اليهودي حول الحقيقة الأساسية بالغة الأهمية والتي تنقض الوهم الاستعماري عن المشهد الخالي الفاتح ذراعيه للمستوطنين، وهي حقيقة وجود ذوات سياسية اجتماعية وثقافية لم ولن تختفي وهي الشعب الفلسطيني. إنكار وجود المحكومين الإنساني، بما في ذلك ألمهم وثقافتهم وتجاربهم، هي واحدة من اللعنات المريعة التي ينزلها الاستعمار على المجموعة الحاكمة. الإنكار المعلن نحو الخارج يقوّي القسوة الداخلية. المقاومة الفلسطينية تزعزع الإنكار. وكل هذا من شأنه أن يدفع بالمجتمع الحاكم للاعتراف بالوجود الفلسطيني (فحتى الاعتراف بالعدو هو بمثابة اعتراف!)، إلا أن الاعتراف بالفلسطينيين كعدو فقط لا تكفي.

إن المساهمة الإضافية التي من شأن الفلسطينيين دون غيرهم إضفاءها على سيرورة تحرر اليهود الإسرائيليين من أكبال الصهيوينة هي بمد يدهم نحوهم في محاولة الأخيرين الخروج من جدران "الجيتو" المسلّح وذلك في إطار نضال مشترك. وسأقول هذا بصوت عالٍ جليّ: المجتمع المستوطِن اليهودي بحاجة لأن يمُد الفلسطيني يده ليتحرر من الاستعمار. إنَّ الحكم القائم لا يؤسس سلطته في وعي غالبية الإسرائيليين على كثير من الوعظ، فقبضه على نفوس الناس يعتمد بالأساس على كلمتين: "لا مفرّ". لا مفرّ إلا بإكمال القتال، لا مفرّ إلا بمواصلة التحصّن خلف الجدران. هرتسل كان على صواب؛ إدامة الصراع ضرورية للمشروع الصهيوني، شارون وباراك ونتنياهو، قاموا من جهتهم بكل شيء في العقود الأخيرة من أجل الإثبات بالدم وبالرصاص أنه لا مفرّ. أعلنوا الحرب على الفرص السياسية الحقيقية وذلك لإقناع الجمهور اليهودي الإسرائيلي أنه لا يوجد مفرّ؛ وإذا ما كان من مفرّ؛ إذا ما كان هناك من أحد يمكن التحدث معه، فقد تم تفجيره... لا شك أنهم نجحوا إلى حد كبير بتحقيق هدفهم.  

إذن فالفلسطينيون هم الوحيدون الذين يمكنهم الإظهار بشكل حقيقي لليهود الإسرائيليين، أسرى "جيتو" الوعي الذي بنته لهم إسرائيل، أنه بالإمكان حقاً العيش خارج هذه الجدران بمساواة ودون امتيازات؛ أي العيش حقاً. 

وأكثر من ذلك: ليس فقط من حيث مبنى المجتمع، بل أيضاً من حيث الوعي وثقافة المجتمع الإسرائيلي فهم ليسوا كتلة متجانسة واحدة. لا تعمل مشاريع الاستيطان الاستعماري على الصعيد "الخارجي" فحسب وإنما ومن أجل تحقيق تغيير ذي تأثير كبير على المشهد الإنساني والاجتماعي، وأيضاً لسلب سكان المكان، فإن هذه المشاريع تعمل "داخلياً" لتغيير المجموعة الحاكمة من أجل خلق "إنسان جديد". المشروع الصهيوني هو مشروع "تطهير" ليس فقط تطهير الأرض من سكانها الأصليين وإنما أيضاً تطهير ذاتي للمجتمع اليهودي من تقاليده القائمة الحية من أجل إنتاج "يهودي جديد"، وتحديداً – تطهير المجتمع اليهودي من كل أثر من العروبة ومن الشرق القابع في داخلها. ولكن الحركة الصهيونية فشلت في تحقيق ذلك، فبدلاً من مستعمرة أوروبية "بيضاء" في قلب الشرق الأوسط نشأ في إسرائيل مجتمع توجد فيه أقلية فلسطينية لن تختفي وغالبية ليست "أوروبية" أو "بيضاء" أو "غربية".

إن قمع الثقافة الشرقية داخل المجتمع اليهودي في إسرائيل لن يتوقف ما دامت إسرائيل تشكل رأس الحربة الغربية وحصناً مكيناً مقابل العالم العربي، وفيما تواصل حربها المتواصلة مع الفلسطينيين وشعوب المنطقة. تحرير اليهود الشرقيين من الـ"جيتو" الذي بنته لهم الصهيونية ومن الجدران التي تحول بيننا وبين الشرق الأوسط ومن القمع الثقافي؛ كل هذا يتعلق إذن بتحرّر الفلسطيني من الاستعمار. اليد الفلسطينية الممدودة من شأنها أن تكشف الطريق أمام اليهود الشرقيين إلى خارج الجدران إلى الشرق الأوسط؛ لا كأسياد بل كشركاء في تجدده الاجتماعي والثقافي.  

إن النضال المشترك، في قلب واقع مؤسس على الفصل وعلى الجمع بين التمييز والعنصرية, يدّل في الحاضر على الإمكانية لحياة أخرى؛ حياة تتجاوز نظام الجدران والأسوار الذي أقامته الصهيونية في هذا المكان. وهنا يتوجب الحذر؛ إذ إنني لا أقول إن باستطاعتنا إقامة مساواة حقيقية في قلب الواقع الاستعماري الذي نحيا فيه. ستكون عاقبة المحاولات المثالية لاستحضار العيش المستقبلي هنا والآن، وذلك عبر إقامة مساواة قومية واجتماعية في قلب واقع من السلب والتمييز، خيبة أمل مدويّة. فمن المتوقع أن تعيد هذه المحاولات إنتاج عدم المساواة القائمة ما يضطر المشاركين فيها  لإخفاء حقيقة عدم المساواة بكل ما أوتوا من قوّة من أجل التمسّك بحلمهم. إلا أنني لا أتحدث عن هذا؛ ليس عن إقامة جزر مساواة مثالية في قلب نظام سلب وعدم مساواة، وإنما عن أنه بالإمكان في قلب النضال، في قلب المواجهة المشتركة (وغير المتساوية!)، وفي قلب النقاش والاستيضاح اللذين يشكّلان جزءاً لا يتجزأ من النضال المشترك؛ بالإمكان تلمّس بعض من المساواة والعيش المشترك. إن النضال الإسرائيليّ- الفلسطينيّ المشترك ضد النظام القائم هو التجلّي الجزئيّ في الحاضر للحياة التي يمنع النظام القائم أن نعيشها.

وكيف يجد هذا الكلام صداه على مسامع أصدقائي وصديقاتي الفلسطينيين؟ أمِنَ العدل مطالبة الفلسطينيين علاوة على مواجهتهم المتواصلة مع السلب والتمييز والقمع والطرد بأن يشاركوا في تغيير وعي المجتمع اليهودي الحاكم؟ علينا أن نكون غاية في الذكاء: هذا التدخّل ليس بمثابة دعوة لحديقة ورود. سيرورة تغيير الوعي مرصوفة بالتناقضات وخيبات الأمل. لا يُبنى الوعي التحرري من تلقين بعض الشعارات الجميلة وإنما بمواجهة مستمرة. إنه من الصعب والمؤلم أكثر أحياناً الاصطدام بعبارات عنصريّة وفوقيّة في قلب النضال المشترك ذاته وفي صفوف حلفاء نضال أعزاء علينا وفي عمق عملنا نحن أنفسنا. هذا بالتأكيد شيء غير منصف، لكن هذا هو الواقع الذي نحيا فيه. لقد فُرضت عملية الاستيطان الاستعماري على سكان البلاد، إلا أن التعامل مع عواقبها ليس بترف نسمح به لأنفسنا. من أجل تغيير الواقع القائم علينا مواجهته.

من أجل نضال مشترك

على من يؤمن بالنضال المشترك، أن يعترف بأن الشراكة ثنائية القومية لا تعني إلغاء الفروقات، وأن عدم المساواة بين شركاء النضال من الممكن محوّه بعصا سحرية. بل أكثر من ذلك؛ إن الحدود بين الإسرائيليين والفلسطينيين لا تختفي في النضال المشترك، وإن الحدود ليست قائمة في الوعي فحسب ولا تختفي نتيجة لتغيير الوعي الشخصي عند النشيطين والنشيطات، بل إنها قائمة وموجودة في الواقع الاجتماعي; الاعتراف بها أمر ضروري من أجل التمكّن من تجاوزها بحرية كمتساوين وبمحض إرادتنا. أما الحدود الكبيرة للغاية فهي تلك التي تنتجها عملية السلب ولكنها ليست وحدها في المهمة؛ لا يمكن للنضال المشترك أن يتجاهل التفاوت في القوى والموارد بين الإسرائيليين والفلسطينيين، ولا ندوب الماضي ولا ما فعله التاريخ بالناس، ولا ما فعلوا هم أو أنتجوا من تجاربهم الاجتماعية؛ أي ثقافتهم. لم يهدف النضال المشترك إلى إنتاج هوية جديدة، ولا تعارُض بينه وبين تعزيز الهوية لا سيّما هوية المضطهَدين. 

لا يعني النضال المشترك تغييب الفروقات وإنكار الفجوات بل يعتمد على التمييز بين حراكات مشتركة ونضالات عينيّة في مواقع خاصة وبين النضال كسيرورة مركّبة لمواجهة النظام القائم. هناك حالات من الجائز أن تكون مجالات النضال فيها منفصلة بل ومن المتوقع أن تكون كذلك لكونها تمثّل تجارب ومصالح خاصة. المهمة الرئيسية الأولى لتنظيم سياسي يهدف إلى الدفع نحو تحرّر اجتماعي هو تمكينه المجموعات المضطهَدة من بناء تحالفات (لا تكتلات مؤقتة) من أجل النضال للتحرّر، والحوار والنقاش والترابط بين مجموعات مضطهَدة تختلف فيما بينها وتتفاوت بقوتها وبتجاربها المختلفة. هذا هو التحدّي الذي يسعى التنظيم الذي أنتسب إليه إلى تحقيقه. هل قلت فيما سبق أن هذا التحدي صعب؟

 

نشر أصلاً في قضايا إسرائيلية (المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية – مدار) 51, نوفمبر 2013. مترجم عن العبرية. ترجمة: حنين نعامنة.

 


[1] غادي الغازي, "ثمن الاحتلال: ماتريكس وبلعين, أو حكاية عن رأس المال الكولونيالي في إسرائيل," قضايا إسرائيلية, العدد 21 (2006), 46–55.

[2] غادي الغازي وخيراردو لايبنر, "تعايش في بلاد المحاسيم",  قضايا إسرائيلية, العدد 6-7 (2002), 34–45.